(سوريا لن تكون "مصدرا للتهديد" لإسرائيل).. هذه أحدث رسالة من حكومة الأمر الواقع في دمشق إلى واشنطن. رغم الخلفية الدينية والجهادية لحكومة احمد الشرع وهي نفسها التي كانت جزء أساسي من الحركات الجهادية المتخصصة في تسويق ارهابها تحت شعار تحرير فلسطين وتطهير القدس من اليهود البرابرة أعداء الإسلام واتهمت نظام بشار الأسد بالعمالة لإسرائيل وانتزعت منه الحكم تحت تلك الذرائع، الا انها لم تجد اى غضاضة بعد أن نصبت نفسها حاكما شرعيا للبلاد في الانقلاب على كل ما كانت تروج لها قبل الوصول للحكم.
الرد السوري جاء بعد أن سلمت الولايات الشهر الماضي قائمة من ثمانية شروط تريد من دمشق الوفاء بها ، بما في ذلك تدمير أي مخزونات متبقية من الأسلحة الكيماوية وضمان عدم منح الأجانب مناصب حكومية عليا. والمسؤولة الأميركية البارزة ناتاشا فرانشيسكي هى من سلمت القائمة إلى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في اجتماع شخصي على هامش مؤتمر المانحين السوريين في بروكسل في 18 مارس الماضي.
لكن الرد السوري لم يكن في صورة وثيقة كتابية فقط لكنه آتي مشفوعا بخطوات وإجراءات تؤكد الجدية والنية الصادقة دون أي شبهة أو التفاف حول مضمون هذا الرد ، فقد شكلت الحكومة المؤقتة لجنة "لمراقبة أنشطة الفصائل الفلسطينية" بشقيها السياسي والعسكري مع تحذير حاسم المنتمين إليها بالالتزام أو الطرد من الأراضي السورية، ليس هذا فحسب ولكن التحذير امتد الي جميع الفصائل المسلحة الأخرى التي شاركت الشرع في الوصول للسلطة، وجاءت هذه الرسالة قبل أيام فقط من احتجاز سوريا لمسؤولين فلسطينيين من حركة الجهاد الإسلامي المتشددة.
واقترت الرسالة أيضا بوجود "اتصالات مستمرة" بين سلطات مكافحة الإرهاب السورية وممثلين أمريكيين في عمان بشأن محاربة تنظيم الدولة الإسلامية وقالت إن سوريا تميل إلى توسيع هذا التعاون. لم يتم الإبلاغ عن المحادثات المباشرة بين سوريا والولايات المتحدة في عمان من قبل.
دمشق فعليا في حاجة ماسة إلى تخفيف العقوبات وإنقاذ ما تبقي من اقتصادها المنهار بسبب الحرب المستمرة منذ 14 عاما فرضت خلالها الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا عقوبات صارمة في محاولة للضغط على الرئيس السابق بشار الأسد. ورغم أن واشنطن قررت في يناير الماضي إعفاء لمدة ستة أشهر لبعض العقوبات لتشجيع المساعدات، لكن هذا كان له تأثير محدود، والخطوات التي قامت بها حكومة الشرع ستساهم فقط في تمديد هذا الاعفاء لمدة عامين، لكن إذا كان نظام الأمر الواقع يأمل في المزيد من الانفتاح فعليه اتخاذ خطوات أكثر واقعية تجاه أعداء الامس... لذلك كانت الرسالة الأخيرة حاسمة، سوريا لن تكون "مصدرا للتهديد" لإسرائيل!
ومن جانبه سعى الشيباني في أول خطاب له أمام مجلس الأمن الدولي إلى إظهار أن سوريا تعالج بالفعل المطالب بما في ذلك بشأن الأسلحة الكيماوية والبحث عن الأمريكيين المفقودين في سوريا. وتتسق تعليقاته العلنية مع الخطوات التي تقوم بها حاليا حكومة الأمر الواقع في دمشق.
التسريبات المنشورة في الصحافة الأمريكية حول مضمون الرد السورى المكون من أربع صفحات، يؤكد تعهد سوريا بإنشاء مكتب اتصال في وزارة الخارجية للعثور على الصحفي الأمريكي المفقود أوستن تايس ومتابعة تجريد البلاد من مخزونات الأسلحة الكيماوية، بما في ذلك توثيق العلاقات مع المؤسسات الدولية لمراقبة الأسلحة. لكن الوثيقة لم يكن لديها الكثير لتقوله بشأن المطالب الرئيسية الأخرى ، بما في ذلك إخراج المقاتلين الأجانب والسماح للولايات المتحدة بتوجيه ضربات للمنظمات والحركات الارهابية في سوريا، فهذا الملف مازال يحتاج الى بعض التفاصيل نظرا لارتباطه الوثيق بالحكومة الحالية فى دمشق.
وبالفعل فإن الخطوات على الأرض تؤكد صحة ما جاء في التقارير الصحفية، فقد علقت دمشق تعين اى شخصيات أجنبية أو منحهم رتب عسكرية لأجل غير مسمى ، في إشارة على ما يبدو إلى تعيين مقاتلين أجانب في ديسمبر الماضي من بينهم تركى واردني وايجورى في مراكز عليا في القوة المسلحة للبلاد.
وفي المقابل تعهدت الحكومة السورية بانها لن تتسامح مع أي تهديدات للمصالح الأمريكية أو الغربية في سوريا واتخاذ "إجراءات قانونية مناسبة" ضد المتجاوزين دون الخوض في التفاصيل. ليس هذا فحسب، ايضا فقد أعرب الشرع عن استعداده لتطبيع العلاقات مع إسرائيل ضمن الاتفاق الابراهيمي شريطة أن تضمن واشنطن وتل أبيب وبقاء وحدة الاراضي السورية!
على كل حال ليس هذا بالجديد على تلك التيارات المسلحة المتسترة بشعار الدين والمعروفة بصلاتها القوية بدول اجنبية واقليمية وأجهزتها الاستخباراتية التي تقف ورائها تمويلا ودعما، لكن الغريب هو تقبل الرأي العام في بلد كان يرمز له ب " قلب العروبة النابض"... وليس هذا نقدا لموقف تيار أو شعب ، لكن الامر اصبح فى اشد الحاجة لمراجعات فكرية ودينية وفلسفية لكل ما تم التسويق له من أسباب الصراع العربي الإسرائيلي، بما في ذلك مخزون الشعارات الذي فقدنا بسببه الالاف والالاف من شباب هذه الأمة وضاع معها مستقبل الملايين من الأجيال الجديدة.